السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه لكل من له قلب نفعني الله واياكم بالقران
يقول ربنا جل وعلا : { القارعة * ما القارعة * وماأدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية }
* * * * * * * * * * * * * *
{ القارعة } اسم فاعل من قرع ، والمراد : التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور ، كما قال تعالى : { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء وكل أتوه داخرين } فهي تقرع القلوب بعد قرع الأسماع ، وهذه القارعة هي قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك ، وهي من أسماء يوم القيامة ، كما تسمى الغاشية والحاقة .
وقوله : { ما القارعة } هنا استفهام بمعنى التفخيم والتعظيم والتهويل ، يعني أي شئ أعلمك عن هذه القارعة ؟ أي ماأعظمها وماأشدها ، ثم بين متى تكون في ذلك الوقت ، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } أي : أنها تكون في ذلك الوقت ، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم ، قال العلماء : يكون كالفراش المبثوث ، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدي ، وتتراكم وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري ، فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى ، و { المبثوث } يعني المنتشر ، فهو كقوله تعالى { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } لو تصورت هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه لتصورت أمرا عظيما لا نظير له ، هؤلاء العالم من آدم إلى أن تقوم الساعة كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها ، ومن غير القبور كالذي ألقي في لجة البحر ، وأكلته الحيتان ، أو في فلوات الأرض ، وأكلته السباع ، أو ما أشبه ذلك ، كلهم سيخرجون مرة واحدة ، يصولون ويجولون في هذه الأرض ،
أما الجبال وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة فتكون { كالعهن المنفوش } { العهن } الصوف ، وقيل : القطن ، { المنفوش } المبعثر أي : أن هذه الجبال بعد أن كانت صلبة قوية راسخة تكون مثل العهن الصوف ، أو القطن المبعثر ، سواء نفشته بيدك أو بالمنداف فإنه يكون خفيفا يتطاير مع أدنى ريح ، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى أن الجبال تكون هباء منبثا { وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا } وقال جل وعلا هنا { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هية * نار حامية } ، قسم الله تعالى الناس إلى قسمين :
القسم الأول : من ثقلت موازينه وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته ، أو الذي ليس له حسنة أصلا كالكافر ، يقول الله تعالى : { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية } العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة ، يقال : عاش الرجل زمنا طويلا ، أي : بقي وحيي زمنا طويلا ، والعيشة هنا على وزن فعلة فهي هيئة وليست مصدرا ، المصدر الدال على الوحدة أن تقول عيشة ، وأما إذا قلت عيشة فهي فعلة تدل على الهيئة ، كما قال ابن مالك رحمه الله :
وفعلة لمرة كجلسة * * وفعلة لهيئة كجلسة .
المعنى : أنه في حياة طيبة راضية ، { راضية } قيل : إنها اسم فاعل بمعنى اسم المفعول ، أي مرضية . وقيل إنها اسم فاعل من باب النسبة أي ذات رضى ، وكلا المعنيين واحد ، والمعنى : أنها عيشة طيبة ليس فيها نكد ، وليس فيها صخب ، وليس فيها نصب ، كاملة من كل وجه ، وهذا يعني العيش في الجنة جعلنا الله منهم ، هذا العيش لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ، لا يحزنون ، ولا يخافون ، في أنعم عيش ، وأطيب بال ، وأسر حال فهي عيشة راضية .
{ وأما من خفت موازينه } إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة ، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الآخرة ، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر .
{ فأمه هاوية } أم هنا بمعنى مقصودة ، أي : الذي يقصده الهاوية ، والهاوية من أسماء النار ، يعني أنه مآله إلى نار جهنم والعياذ بالله ،
وقيل : إن المراد بالأم هنا : أم الدماغ ، والمعنى : أنه يلقى في النار على أم رأسه ، نسأل الله السلامة ، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يترجح أحدهما على الآخر ولا يتنافيان فإنه يؤخذ بالمعنيين جميعا فيقال : يرمى في النار على أم رأسه ، وأيضا ليس له مأوى ولا مقصد إلا النار { وما أدراك ما هية } هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهوية ، يسأل ما هي ؟ أتدري ما هي ؟ إنها لشئ عظيم ، إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحمو ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : { إنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءا } ، إذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب ، أو الورق ، أو البتغاز أو أشد من ذلك فإن نار جهنم مفضلة عليها بتسعة وستين جزءا نسأل الله العافية ، وفي هذه الآية التخويف والتحذير من هذا اليوم وأن الناس لا يخرجون عن حالين : إما رجل رجحت حسناته ، أو رجل رجحت سيئاته .
وفيها أيضا دليل على أن يوم القيامة فيه موازين ، وقد جاء في بعض النصوص أنه ميزان فهل هو واحد أو متعدد ؟
قال بعض أهل العلم : إنه واحد وإنما جمع باعتبار الموزون لأنه يوزن فيه الحسنات والسيئات ، وتوزن فيه حسنات فلان وفلان ، وتوزن فيه حسنات هذه الأمة والأمة الأخرى ، فهو مجموع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان ، وإلا فالميزان واحد ،
وقال بعض أهل العلم : إنها موازين متعددة ، لكل أمة ميزان ، ولكل عمل ميزان فلهذا جمعت .
والأظهر _ والله أعلم أنه ميزان واحد _ لكنه جمع باعتبار الموزون على حسب الأعمال ، أو على حسب الأمم ، أو على حسب الأفراد .
وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان إذا تساوت حسناته وسيئاته فإنه قد سكت عنه في هذه الآية ، ولكن بين الله تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار وإنما يحبسون في مكان يقال له الأعراف ، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين ، وأنهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن رجحت حسناته على سيئاته ، وأن يغفر لنا ، ويعاملنا بعفوه ، إنه على كل شئ قدير .
الشيخ العلامة : محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين وجزاه عنا خير الجزاء .